و سأذكر حديث رفاعة بن رافع التي كثرت ألفاظه و كثرت الزيادات بين متن و آخر و بين سند و آخر
و أقتصر على ذكر روايتين:
(04) روى النسائي عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ أبو يحيى بمكة وهو بصري قال حدثنا أبي قال حدثنا همام قال حدثنا إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن علي بن يحيى بن خلاد ابن مالك بن رافع بن مالك حدثه عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع
-قال بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ونحن حوله إذ دخل رجل فأتى القبلة فصلى فلما قضى صلاته جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك اذهب فصل فانك لم تصل فذهب فصلى فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرمق صلاته ولا يدري ما يعيب منها فلما قضى صلاته جاء فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى القوم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليك اذهب فصل فانك لم تصل فأعادها مرتين أو ثلاثا فقال الرجل يا رسول الله ما عبت من صلاتي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله عز وجل ويحمده ويمجده قال همام وسمعته يقول ويحمد الله ويمجده ويكبره قال فكلاهما قد سمعته يقول قال ويقرأ ما تيسر من القرآن مما علمه الله وأذن له فيه ثم يكبر ويركع حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ثم يقول سمع الله لمن حمده ثم يستوى قائما حتى يقيم صلبه ثم يكبر ويسجد حتى يمكن وجهه وقد سمعته يقول جبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي ويكبر فيرفع حتى يستوي قاعدا على مقعدته ويقيم صلبه ثم يكبر فيسجد حتى يمكن وجهه ويسترخي فإذا لم يفعل هكذا لم تتم صلاته.
ـ عبد الله بن يزيد أبو يحي المقرئ: ثقة فاضل.
ـ إسحاق بن أبي عبد الله بن طلحة: ثقة حجة.
ـ همام بن يحي بن دينار: ثقة.
ـ علي بن يحي بن خلاد بن مالك: ثقة.
ـ يحي بن خلاد: قيل له رؤية.
(05) روى الترمذي عن علي بن حجر حدثنا إسماعيل بن جعفر عن يحيى بن علي عن ابن يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي عن جده عن رفاعة بن رافع
- "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد يوما قال رفاعة: ونحن معه. إذ جاءه رجل كالبدوي، فصلى، فأخف صلاته، ثم انصرف فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وعليك، فارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى، ثم جاء فسلم عليه، فقال: وعليك، فارجع فصل فإنك لم تصل، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: وعليك، فارجع فصل فإنك لم تصل، فعاف الناس وكبر عليهم أن يكون من أخف صلاته لم يصل، فقال الرجل في آخر ذلك فأرني وعلمني، فإنما أنا بشر أصيب وأخطيء، فقال: أجل، إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله به، ثم تشهد فأقم أيضا، فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله، ثم اركع فاطمئن راكعا، ثم اعتدل قائما، ثم اسجد فاعتدل ساجدا، ثم اجلس فاطمئن جالسا، ثم قم، فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئا انتقصت من صلاتك، قال: وكان هذا أهون عليهم من الأولى أنه من انتقص من ذلك شيئا انتقص من صلاته، ولم تذهب كلها".
و هناك روايات أخرجها أبو داوود و الدارمي و ابن حبان و ابن خزيمة و غيرهم بألفاظ و أسانيد مختلفة تنتهي إلى رفاعة بن رافع.
بغض النظر عن صحة أسانيده و العلل الواردة في المتون و الأسانيد و حكم المتابعات فإن بعض روايات رفاعة صحيحة لا تسقط بسبب اضطراب روايات أخرى فيها رواة ضعفاء إذ القاعدة تقول: أن الحديث لا يسمى مضطربا ما لم تتوفر شروطه و من بينها عدم تساوي الروايتين من حيث الإتقان و الضبط في المتن و درجة الحفظ و العدل و الاتصال في السند, و الروايات الثلاثة الأولى عن أبي هريرة صحيحة أيضا فقد أخرجها الشيخان و غيره و ذكروها في عدة أبواب نظرا لكثرة الفوائد التي فيها ففيه وجوب الاعتدال في الصلاة و فيه آداب رد السلام و جواز الاقتصار بالنصيحة قبل السلام وغيرها من الفوائد التي شرحها الفقهاء فليس موضوعنا شرح الحديث بكل جوانبه.
أما حكم الزيادات في الروايات الصحيحة ما لم يظهر تضاد أو تصادم يتسنى لنا أن نجمع طرقها لنكمل بعضها بعضا إذ هنالك من يقول أن الروايتين بطرقها الصحيحة كانتا منفصلتين أي وقعتا في مناسبتين مستقلتين و الله أعلم.
حديث المسيء صلاته عولوا عليه في أن الرفع ليس مشروع و لو كان مشروع لأمر رسول الله صل الله عليه و سلم للمسيء صلاته أن يفعله.
و قد كان لي لقاء مع بعض أئمة المذهب و ذكرت مسألة الرفع فاستدلوا بهذا الحديث. لكن قبل أن نطرح رأينا فيه نرى أن كل الأئمة الذين رووا الحديث و الأئمة الحفاظ الذين شرحوه لم يجعلوه حجة لبطلان الرفع و غيره.
لأن معاني الحديث واضحة وضوح الشمس ...
أما ابن حجر فقد فصل في هذا الحديث تفصيلا يثلج الصدر بعد التعليق على أصح الروايات و بيان طرقها وأوجه الاختلاف و الزيادات نقل عن ابن دقيق العيد قائلا:تكرر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه وعلى عدم وجوب ما لم يذكر أما الوجوب فلتعلق الأمر به وأما عدمه فليس لمجرد كون الأصل عدم الوجوب بل لكون الموضع موضع تعليم وبيان للجاهل.
وذلك يقتضى انحصار الواجبات فيما ذكر ويتقوى ذلك بكونه صلى الله عليه وسلم ذكر ما تعلقت به الإساءة من هذا المصلي وما لم تتعلق به فدل على أنه لم يقصر المقصود على ما وقعت به الإساءة.
فكل موضع اختلف الفقهاء في وجوبه وكان مذكورا في هذا الحديث فلنا أن نتمسك به في وجوبه وبالعكس لكن يحتاج أولا إلى جمع طرق هذا الحديث وإحصاء الأمور المذكورة فيه والأخذ بالزائد فالزائد ثم إن عارض الوجوب أو عدمه دليل أقوى منه عمل به وإن جاءت صيغة الأمر في حديث آخر بشيء لم يذكر في هذا الحديث قدمت. هذا كله كلام ابن دقيق العيد فتعقب الحافظ قائلا:
قلت قد امتثلت ما أشار إليه وجمعت طرقه القوية من رواية أبي هريرة ورفاعة وقد أمليت الزيادات التي اشتملت عليها فمما لم يذكر فيه صريحا من الواجبات المتفق عليها النية والقعود الأخير ومن المختلف فيه التشهد الأخير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فيه والسلام في آخر الصلاة.
قال النووي وهو محمول على أن ذلك كان معلوما عند الرجل و رد عليه الحافظ قائلا: وهذا يحتاج إلى تكملة وهو ثبوت الدليل على إيجاب ما ذكر كما تقدم وفيه بعد ذلك نظر.
قال النووي: وفيه دليل على أن الإقامة والتعوذ ودعاء الافتتاح ورفع اليدين في الإحرام وغيره ووضع اليمني على اليسرى وتكبيرات الانتقالات وتسبيحات الركوع والسجود وهيئات الجلوس ووضع اليد على الفخذ ونحو ذلك مما لم يذكر في الحديث ليس بواجب.
و رد عليه الحافظ قائلا: وهو في معرض المنع لثبوت بعض ما ذكر في بعض الطرق كما تقدم بيانه فيحتاج من لم يقل بوجوبه إلى دليل على عدم وجوبه كما تقدم تقريره, ثم سرد بعض الأمثلة في ذلك.
و قد استدل ابن عبد البر في كتابه التمهيد أن الرسول صل الله عليه و سلم علم الرجل في هذا الحديث الفرائض دون السنن. قلت: و كلام ابن عبد البر كان في جملة ردوده لمن أوجب رفع اليدين في الصلاة. واعتبرابن عبد البر سنة و ليست بفرض من فرائض الصلاة. و هذا لا يعني أن رفع اليدين أمر مخير للصلاة بل هو بمرتبة تكبيرات الانتقال و الأدعية و أذكار الركوع و السجود و قراءة القرآن بعد الفاتحة.
فجل الفقهاء المعتمدين فهموا معنى الحديث فهما منطقيا و بينوا أن رسول الله صل الله عليه و سلم علم الرجل و بين له ما أساء فيه و لم يعلمه كل الواجبات و كما قال ابن حجر و غيره هناك بعض الواجبات و بعض السنن لم يذكرها له و جاء الأمر بها في أحاديث أخرى.
و إذا فهمنا من هذا الحديث أن الرسول صل الله عليه و سلم علمه ما هو واجب لقلنا أن قراءة الفاتحة ليس بواجب بل مخير لقوله صل الله عليه و سلم " و اقرأ ما تيسر من القرآن " في أغلب الروايات و هو واجب و لا التشهد بل هنالك رواية تؤكد الاستواء جالسا عند الرفع من السجدة الثانية, و لا التسليم و لا الذكر عند الركوع و السجود و لا النية و غيرها.
بل كل هذه الأقوال و الأفعال ذكرت في أحاديث أخرى متفرقة عند مناسبات أخرى بين أمر و فعل لغرض الاقتداء شأنها شأن الرفع و غيره.
و يتبين لنا من الحديث أن الرجل كان لا يتم الركوع و السجود و لم يكن يعتدل في رفعه و خفضه لذلك علمه الاعتدال و كيف يقيم صلبه و علمه الاطمئنان و التأني في صلاته.
و هذه الظاهرة موجودة إلى اليوم و خاصة عند العوام و الجهال تراهم ينقرون صلاتهم كنقر الديك لا يقيمون أصلابهم و لا يطمئنون في ركوعهم و سجودهم.
ثم إذا لا حظنا الأئمة الذين رووا الحديث ذكروا الحديث تحت أبواب لا توحي بما ذهبوا إليه المستدلين بعدم مشروعية الرفع.
الدليل الثاني: حديث أذناب الخيل الشمس:
(06) روى الإمام مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبو كريب. قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة، عن جابر بن سمرة؛ قال:
خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال "مالي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة" قال ثم خرج علينا فرآنا حلقا. فقال "ما لي أراكم عزين؟" قال ثم خرج علينا فقال "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟" فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال "يتمون الصفوف الأول. ويتراصون في الصف".
الحديث أخرجه مسلم في باب الأمر بالسكون في الصلاة، والنهي عن الإشارة باليد ورفعها عند السلام، وإتمام الصفوف الأول والتراص فيها والأمر بالاجتماع, و أخرج معه حديثين آخرين خاصين بالنهي الأول مع شيء من التفصيل.
و الحديث أخرجه البخاري في جزئه, و أخرجه النسائي بنحوه عن قتيبة و السراج عن الوليد بن شجاع و أخرجه ابن حبان و غيرهم.
هذا الحديث استدلوا به في أن رفع اليدين في الصلاة منهي عنه مطلقا إذ لم يذكر فيه موضع معين و تجاهلوا أن الإمام مسلم أخرج حديثا آخر بطوله بعد الأول مباشرة ساق الحديث إلى نفس الصحابي جابر بن سمرة رضي الله عنه.
(07) قال فيه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة. قال: حدثنا وكيع عن مسعر. ح وحدثنا أبو كريب (واللفظ له) قال: أخبرنا ابن أبي زائدة عن مسعر. حدثني عبيد الله بن القبطية عن جابر بن سمرة؛ قال:
كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: السلام عليكم ورحمة الله. السلام عليكم ورحمة الله. وأشار بيده إلى الجانبين. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "علام تومئون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ إنما يكفي أحدكم أن يضع يده على فخذه. ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله".
الحديث أخرجه البخاري في جزئه و الإمام أحمد و الطحاوي و ابن خزيمة و ابن حبان و غيرهم.
و سند الحديث الثاني قوي جدا و متقن إذ لا وجود لمدلس و لا من يوصف بسوء الحفظ بينما الأول فيه مدلسان و منهم رجل مبتدع قيل فيه أنه رأس المرجئة. و هو أبو معاوية, لكن لا نستعمل أسلوب السيابي وغيره في رد الأحاديث الصحيحة ظلما و مكابرة بل نستعمل الأمانة و نتقيد بقواعد علوم الحديث و نقول:
لكن قد تابع شعبة أبا معاوية في الأعمش و صرح الأخير بالسماع من تميم بن طرفة. و هذا السند أخرجه ابن حبان.
(08) و هنالك حديث ثالث رواه مسلم عن القاسم بن زكرياء. قال حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن فرات (يعني القزاز) عن عبيد الله، عن جابر بن سمرة؛ قال:
صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فكنا إذا سلمنا، قلنا بأيدينا: السلام عليكم. السلام عليكم. فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "ما شأنكم؟ تشيرون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده".
و هذا الحديث أيضا صحيح و سنده لا مطعن فيه
أما أهل الحديث و الفقهاء لم يشكوا في مشروعية رفع اليدين من أجل هذا الحديث بل وقع اختلاف بين من يرى أن الحديث الأول دليل بعدم مشروعية رفع اليدين عند الركوع و الرفع منه. و بالتالي يقولون بمشروعية رفع اليدين مرة واحدة عند تكبيرة الإحرام, و هذا لا خلاف فيه, و بين الذين لا يرون من ذاك الحديث دليلا في النهي عن رفع اليدين في الموضعين الآخرين و يستدلون بالحديث الثاني بطوله أين اتضح الموضع المنهي عنه و هو الرفع عند التسليم. و يدعمون موقفهم بالأدلة القاطعة من الأحاديث الكثيرة و الصحيحة في مشروعية رفع اليدين في المواضع المختلف عنها.
و من بين أقوال الصنف الأول: إن في الحديث الأول نهي مطلق لمن يرفع يديه أثناء الصلاة حيث قال (في الصلاة) أما الرفع الأول يكون قبل تكبيرة الإحرام ثم ينتهي عندها فهذا في بداية الدخول إلى الصلاة و هذا الرفع لا خلاف فيه بين المسلمين, و كذلك الرفع عند التسليم حيث يكون مباشرة مع التسليم إذ هي الخروج من الصلاة.
فالأولى عند الدخول إلى الصلاة و الثانية عند الخروج منها يعني ليستا في الصلاة, فيحتمل أن يكون الحديث هذا ليس نفسه الموالي الذي صرح بالنهي الثاني وهو الرفع عند التسليم, و هذا مما يدل أن الرفع عند تكبيرة الإحرام مشروع باتفاق الأمة (قلت و هناك من قال سنة) أما غير ذلك من الرفع فهو منهي عنه أو منسوخ.
و قد رد الفقهاء و علماء الحديث لمثل هذه الأقوال, قال البخاري: فأما احتجاج بعض من لا يعلم بحديث وكيع عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن تميم بن طرفة عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه ... فذكر الحديث, فإنما كان هذا في التشهد لا في القيام كان يسلم بعضهم على بعض فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأيدي في التشهد ولا يحتج بهذا من له حظ من العلم هذا معروف مشهور لا اختلاف فيه ولو كان كما ذهب إليه لكان رفع الأيدي في أول التكبيرة وأيضا تكبيرات صلاة العيد منهيا عنها لأنه لم يستثن رفعا دون رفع.
و قال أيضا: وقد ثبت حديث حدثناه أبو نعيم حدثنا مسعر عن عبيد الله بن القبطية قال سمعت جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنهما... فذكر الحديث الموالي, قال البخاري فليحذر امرؤ أن يتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل قال الله عز وجل (( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم)).
و قال ابن حبان: ذكر الخبر المتقصي للقصة المختصرة المتقدمة بأن القوم إنما أمروا بالسكون في الصلاة عند الإشارة بالتسليم دون الرفع الثابت عند الركوع ثم رواه كنحو رواية مسلم.
و قال ابن عبد البر: وقد احتج بعض المتأخرين للكوفيين ومن ذهب مذهبهم في رفع اليدين بما حدثنا أحمد بن محمد و ساق إسناده إلى جابر بن سمرة فذكر الحديث الأول و قال:
وهذا لا حجة فيه لأن الذي نهاهم عنه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير الذي كان يفعله لأنه محال أن ينهاهم عما سن لهم وإنما رأى أقواما يعبثون بأيديهم ويرفعونها في غير مواضع الرفع فنهاهم عن ذلك.
وكان في العرب القادمين والأعراب من لا يعرف حدود دينه في الصلاة وغيرها وبعث ـ صلى الله عليه وسلم ـ معلما فلما رآهم يعبثون بأيديهم في الصلاة نهاهم وأمرهم بالسكون فيها وليس هذا من هذا الباب في شيء والله أعلم اهـ.
قلت و الكوفيون هم الذين تفردوا عن غيرهم من أهل الأمصار في الاقتصار برفع اليدين في تكبيرة الإحرام.
و قال ابن حجر في التلخيص بعد ما ذكر حديث مسلم الأول: ولا دليل فيه على منع الرفع على الهيئة المخصوصة في الموضع المخصوص وهو الركوع والرفع منه لأنه مختصر من حديث طويل وبيان ذلك أن مسلما رواه أيضا من حديث جابر بن سمرة قال فذكر حديثه الثاني و قال: وفي رواية إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيديه ثم نقل عن البخاري قائلا: من احتج بحديث جابر بن سمرة على منع الرفع عند الركوع فليس له حظ من العلم هذا مشهور لا خلاف فيه إنه إنما كان في حال التشهد.
و قد اعترض الزيلعي على البخاري و قال: بعد ذكر حديث جابر بن سمرة المختصر المذكور ملخصه: واعترضه البخاري في كتابه الذي وضعه في رفع اليدين فقال:
وأما احتجاج بعض من لا يعلم بحديث تميم بن طرفة بن جابر بن سمرة، فذكر حديثه المختصر وقال: وهذا إنما كان في التشهد لا في القيام، ففسره رواية عبيد الله بن القبطية، قال: سمعت جابر بن سمرة يقول: كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه الطويل المذكور ثم قال البخاري: ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الرفع في تكبيرات العيد أيضاً منهياً عنه لأنه لم يستثن رفعاً دون رفع بل اطلق انتهى.( قلت لم ينقل ذكر الرفع في تكبيرة الإحرام لأنهم كانوا متفقين كلهم على مشروعيتها أو ثبوت فعلها الدائم عن الرسول عليه الصلاة و السلام)
و أجاب الزيلعي: ولقائل أن يقول: إنهما حديثان لا يفسر أحدهما الاَخر كما جاء في لفظ الحديث الأول: اسكنوا في الصلاة. والذي يرفع يديه حال التسليم لا يقال له اسكن في الصلاة إنما يقال ذلك لمن رفع يديه في أثناء الصلاة هو حالة الركوع والسجود ونحو ذلك، هذا هو الظاهر والراوي روى هذا في وقت كما شاهده وروى الاَخر في وقت آخر كما شاهده، وليس في ذلك بعد.
ورد عليه صاحب التحفة و قال: لم يجب الزيلعي عن قول البخاري: ولو كان كما ذهبوا إليه لكان الرفع في تكبيرات العيد أيضاً منهياً عنه. فما هو جوابه عنه فهو جوابنا عن الرفع عند الركوع والرفع منه وأما قوله والذي يرفع يديه حال التسليم لا يقال له اسكن في الصلاة فهو ممنوع بل الذي يرفع يديه قبل الفراغ والانصراف من الصلاة وإن كان حال التسليم الأول والثاني،
فما لم يفرغ من التسليم الثاني هو في الصلاة ألا ترى أن عبد الله بن الزبير رأى رجلاً رافعاً يديه يدعو قبل أن يفرغ من صلاته فلما فرغ منها قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يرفع يديه حتى يفرغ من صلاته رواه الطبراني ورجاله ثقات فتفكر.اهـ
قلت أن صاحب التحفة المباركفوري رد على الزيلعي الذي اعترض البخاري و لم يجب عنه في مسألة الرفع في تكبيرات العيد و اقتصر المباركفوري بذكر هذا النوع من الرفع و لم يذكر النوع الأول الذي ذكره البخاري و هو الرفع عند تكبيرة الإحرام.
و الجواب أنهم لم يختلفوا فيه أبدا و إنما الخلاف الصريح هو في الرفع عند الركوع و الرفع منه فتنبه و تدبر هذه الكلمات, ثم لو قال صاحب التحفة أن الزيلعي لم يجب على البخاري في المثالين سواء لكانت الحجة أقوى و الله أعلم.
فكما ترى فإن هذا الحديث فيه اختلاف بين الذي يرفع عند تكبيرة الإحرام فقط و الذي يرفع في المواضع الأخرى فلا خطر على بالهم أن هذا الحديث يدل على عدم مشروعية الرفع إطلاقا.
و قال الشوكاني في نيل الأوطار:
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ بِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ وَأَبِي دَاوُد . قَالَ فذكر حديث الخيل الشمس الأول عند مسلم ثم قال: وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ فَإِنَّ مُسْلِمًا رَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قال فذكر حديثه الثاني و قال:
وَرُدَّ هَذَا الْجَوَابُ بِأَنَّهُ قَصْرٌ لِلْعَامِّ عَلَى السَّبَبِ وَهُوَ مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ وَهَذَا الرَّدُّ مُتَّجَهٌ لَوْلَا أَنَّ الرَّفْعَ قَدْ ثَبَتَ مِنْ فِعْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُبُوتًا مُتَوَاتِرًا كَمَا تَقَدَّمَ وَأَقَلُّ أَحْوَالِ هَذِهِ السُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَنْ تَصْلُحَ لِجَعْلِهَا قَرِينَةً لِقَصْرِ ذَلِكَ الْعَامِّ عَلَى السَّبَبِ, أَوْ لِتَخْصِيصِ ذَلِكَ الْعُمُومِ عَلَى تَسْلِيمِ عَدَمِ الْقَصْرِ.
وَرُبَّمَا نَازَعَ فِي هَذَا بَعْضُهُمْ فَقَالَ : قَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّهُ إذَا جُهِلَ تَارِيخُ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ اُطُّرِحَا ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ أَجْمَعَتْ عَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ لَا يُجْمِعُونَ إلَّا عَلَى أَمْرٍ فَارَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عِنْدَ الْبَيْهَقِيّ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ** أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ ، وَعِنْدَ الرُّكُوعِ ، وَعِنْدَ الِاعْتِدَالِ ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ صَلَاتُهُ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى } .
وَأَيْضًا الْمُتَقَرِّرُ فِي الْأُصُولِ بِأَنَّ الْعَامَّ وَالْخَاصَّ إذَا جُهِلَ تَارِيخُهُمَا وَجَبَ الْبِنَاءُ ، وَقَدْ جَعَلَهُ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ مُجْمَعًا عَلَيْهِ كَمَا فِي شَرْحِ الْغَايَةِ وَغَيْرِهِ. اهـ
فحق علينا أن نقول للذين أنكروا الرفع في الركوع و الرفع منه كما قال لهم جبل العلم و إمام الدنيا: لا حظ لهم من العلم و أما الإباضية و غيرهم الذين أنكروا الرفع إطلاقا فنقول لهم لستم أهلا لهذا العلم إطلاقا, و إنما تمجمجون و تجعجعون دون أدنى دليل إلا الشبهات فها هو ابن حجر في الفتح و غيره لم يعطوا قيمة لقول الزيدية الذين خالفوا الأمة قاطبة و أنكروا الرفع إطلاقا حيث قال:
و أسلم العبارات قول بن المنذر: لم يختلفوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة.
وقال بن عبد البر كل من نقل عنه الإيجاب لا يبطل الصلاة بتركه إلا في رواية عن الأوزاعي والحميدي قلت ونقل بعض الحنفية عن أبي حنيفة يأثم تاركه, وأما قول النووي في شرح المهذب أجمعوا على استحبابه ونقله بن المنذر, ونقل العبدري عن الزيدية أنه لا يرفع ولا يعتد بخلافهم .اهـ
فأين كنا نحن في كل هذا؟ لماذا لم يرد ذكرنا و ذكر أقوال أئمتنا عندهم؟ فربما صح من قال أن الإباضية يصنفون كتبا و مجلدات في الفقه و غيره و يتدارسونها في ما بينهم و يخفونها عن غيرهم فسبحان الله لما كل هذا التخفي؟
فهذه المقولة شائعة عند كبار قومنا فقد سالت أحد الأئمة المحافظين عن هذه القضية قال: إننا أخفيناها منذ عهد الكتمان خفية من غيرنا و خاصة من العبيديين فقلت و بعد العبيديين؟ فاشار برأسه نعم قلت لكن و لماذا لم تخف علوم أهل السنة المعروفة و هي من أعداء العبيديين؟ و لماذا التخفي بعد عهد العبيديين إن كنا حقا على صواب؟
فإن كنا على حق و ندرك تمام اليقين أن علمنا هو الأصح و الأحق لا بد لنشره مهما كلف الأمر و لا يجوز لنا إخفاء الحق على الغير إن كنا نراهم على ضلال.
ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ( من كتم علما ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)
و هاهو ابن خلدون عارف أخبار البربر قال في تاريخه: ففي بلاد زناتة بالصحراء منها أثر باقٍ لهذا العهد في قصور ربع وَوَادِيْه وفي مغراوة من شعوب زناتة يُسَمّون الراهبيّة؛ نسبة إلى عبد الله بن وهب الراهبي،( قلت و الصواب الراسبي) أوّل من بويع منهم أيام علي بن أبي طالب. وهم في قصور هنالك؛
وكذلك في جبال طرابلس وزناتة أثر باقٍ ... يَدِيْن بها أولئك البربر في المجاوِرة لهم مثل ذلك، وتطير إلينا هذا العهدَ من تلك البلاد دواوين ومجلّدات من كلامهم في فقه الدين، وتمهيد عقائده وفروعه، مباينةٌ ِلمناحي السُّنَّة وطرقِها بالكُلّيّة، إلا أنها ضاربة بسهم في إجادة التأليف والترتيب، وبناء الفروع على أصولهم. اهـ
فالتخفي إلى هذه الدرجة يثير الريب في أنفس العقلاء حتى أننا لا ذكر لنا في أي عهد من العهود عند غيرنا المعتمدين لدى غالبية الأمة الإسلامية.
فكيف سيؤمن بنا غيرنا في هذا الزمن إن ذكرنا لهم أئمتنا و هي كانت في طي الكتمان حتى اختلط الواقع بالخيال فلم نستطع حتى نحن أهل القوم أن نصدق حقيقة تاريخنا و تاريخ أئمتنا الأوائل,
و يزيد النفور من هذا كله المنهج العجيب الذي ينتهجه شيوخ قومنا المعاصرين في محاولة إثبات التاريخ و وجود هؤلاء الأئمة و لو بالتلبيس و التدليس و لدي عودة لهذا الموضوع بعد قليل.
لكن و رغم كل هذا فالرفع ثابت عند أوائل القوم وعلى حسب ما درست و ما كان يقول بعض أئمة الإباضية أن الأوائل كانوا يرفعون و يؤيد ذلك ما وجدت في أحد أقدم مراجع الإباضية في ثبوت الرفع و القبض عندهم حيث تبين لي أن الإباضية الأوائل كانوا فعلا يرفعون.
ففي المدونة الكبرى لأبي غانم الخراساني بترتيب محمد بن يوسف اطفيش وجدت أدلة فقهية تعارض ما يعملون به الآن كالرفع و القبض و قول الصلاة خير من النوم و وجدت أكثر من هذا في المدونة وفي غيرها سأخصص موضوعا آخر للتفصيل إن شاء الله.
ففي الجزء الأول صفحة 60 من طبعة التراث في عمان و صفحة 65 من طبعة دار اليقظة في لبنان يقول أبو غانم: عن سعد بن أبي وقاص و ابن عمر أن من السنة أن يستقبل المصلي القبلة بكفيه, و السنة ما ذكروا فإن لم يفعل ذلك فلا شيء عليه و لا إعادة.
و قال قبل هذا: ذكروا أن ابن مسعود رأى رجلا خالف بكيفه عن القبلة و قال لو أن عندي حجرا أوجعت به يديك حيث لا تستقبل بهما القبلة. قلت و يؤيد ذلك حديث ابن عمر الذي كان يحصب من لا يرفع يديه.
فصدق من قال أنها مسألة سياسية تمييزية, فيؤيد ذلك ما ذكر في كتاب السير و الجوابات لملوك و علماء عمان ورد ضمن سيرة الشيخ أبي الحسن في باب ما يوجب البراءة جاء فيها:
"قلت فإن رفع اليدين في الصلاة و سلم تسليمتين و قرأ الحمد و سورة في صلاة الظهر و العصر, هل يبرأ منه؟"
"قال: لا إلا أن هذه علامة بين أهل الدعوة و من خالفهم". أنظر صفحة 172 من الجزء الثاني.
و حتى الزيدية الذي لا يرفعون فإن الأوائل منهم كانوا يرفعون, ذكر الشوكاني في نيل الأوطار عقب قوله بنقل العبدري بخصوص الزيدية الذين قالوا بعدم جواز رفع اليدين عند تكبيرة الإحرام و لا عند غيرها فقال:
و هو غلط على الزيدية فإنما إمامهم زيد بن علي ذكر في كتابه المشهور بالمجموع حديث الرفع و قال باستحبابه و كذا أكابر أئمتهم المتقدمين و المتأخرين صرحوا باستحبابه و لم يقل بتركه منهم إلا الهادي يحي بن الحسين. و روي مثل قوله عن جده القاسم بن إبراهيم و روي عنه أيضا القول باستحبابه. اهـ
و لا بأس أن نواصل مع أدلة القائلين بعدم مشروعية الرفع:
ــ روى الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن ابن عباس عن رسول الله صل الله عليه و سلم قال: كأني بقوم من بعدي يرفعون أيديهم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس.
هذا الحديث جاء ذكره في مسند الربيع ابن حبيب بهذا اللفظ و هو منكر جدا تفرد به هذا المسند مع مجموعة من المناكير و الغرائب!
و الإشكال الكبير الذي حير الناس أن هذا المسند بمصنفه لم يرد ذكره عند علماء الحديث الحفاظ و لا عند علماء الجرح و التعديل من المتقدمين و المتأخرين, مع كونه مدون في القرون المبكرة جدا و في مدينة البصرة بين ثلة من الحفاظ و النقاد.
و شيخ المصنف أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة مجهول و لم يرد ذكره مع تلامذة جابر بن زيد رغم شهرة هذا الأخير و شهرة حلقه و تلامذته,
فالحق يجب أن يقال يا إخوتي و لا تنفعلون و تغلبكم العاطفة لأننا أمام السنة النبوية و هي أقوال و أفعال رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ هي وحي من السماء كما قال تعالى
(و ما ينطق عن الهوى, إن هو إلا وحي يوحى))
فأجهدت نفسي سنين طويلة في البحث و غلبتني العاطفة في الأول لكن مهما كان الأمر فالحق أمام كل شيء و للحديث قواعد و أسس و ضوابط و حاولت أن أوافق بين أحاديث المسند و ما هو متفق على صحته في غيره لكن دون جدوى.
فالألفاظ فيه جد منكرة و غريبة بل هنالك أحاديث حكم عليها بالوضع وجدتها في المسند و شيوخ الربيع هذا بين مجاهيل و متروكين و حتى زنادقة! أما الثقات منهم فقليل ما هم,
فرجال كتب الحديث الأخرى كلها مترجمة بين الثقة و الصدوق و الضعيف و المتروك و المجهول و الكذاب و الزنديق.
فأول عقبة لقبول هذا المسند هو جهالة مصنفه و شيخه, يا إخواني كونوا موضوعيين و لا تنجروا إلى أكاذيب و ضلالات من يحاول طمس الحقيقة بالخيال و يحاول أن يطعن في ما هو واضح صحيح و يدعوا بدله إلى قبول ما هو غامض و مجهول لم يرد ذكره في عصره و لو بحرف ذما كان أو مدحا, ثم يلقون اللوم إلى السياسة أنذاك و ظلم أهل الحديث و غير ذلك, و هذا خطأ فأهل الحديث وثقوا الكثير من الرجال الذين يرونهم مبتدعين و غير سنيين فهذا أبو معاوية رغم أنه يدلس و رأس المرجئة و وصفه البعض بالخبيث لكن قالوا أما حديثه فيأخذ و الأمثلة كثيرة و البعض يصفوهم بالتشيع لكن يوثقونهم في الحديث و الأمثلة كثيرة.
فمهما انتهجوا سياسية الكتمان التي دعا إليها أبو بلال مرداس بن حدير فلا يمكن أن يختفي أثرهم على النقاد و الحفاظ إلى هذه الدرجة, و قد ذكرنا أقوال ابن خلدون التي تبين أن القوم رغم تخفيهم الشديد إلا أن مجلداتهم و مدوناتهم تصل إلى غيرهم بأي طريقة كانت, فكيف بالعهود الأولى و ما بعدها؟
فإن شككتم في أهل الحديث الذين هم علماء الحديث و علماء الجرح والتعديل و رفضناهم فنستطيع أن نقول ضيعنا مصدر التشريع الثاني المتمم في الإسلام الذي بدونه لا يتم ديننا لكن هذا مجرد تخمين لأن الله يأبى إلا أن يتم نوره و يحفظ كتابه و سنة نبيه مصداقا لوعده في كتابه الكريم.
فلما قال تعالى ((اليوم أكملت لكم دينكم و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا)) فهو تعالى يقصد القرآن الكريم و السنة الطاهرة و من قال غير ذلك فقد أخطأ لأننا إذا قلنا إلا القرآن نقول له: علمنا الصلاة أركانها و فرائضها من السنة, التي بدونها لا ننج أنفسنا يوم القيامة؟ و الأمثلة كثيرة.
فالله تعالى أمرنا بطاعته و طاعة رسوله في غير ما آية و أكد لنا أن طاعة الله تكمن في طاعة رسوله((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ))و محبة الله إنما تتحقق في اتباع رسوله (( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم و الله غفور رحيم))
((مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) و قال تعالى ((وما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا)) و قال تعالى ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ)) و قال تعالى (( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله و اليوم الآخر)) و الآيات كثيرة و لله الحمد.
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (ألا إني أوتيت القرآن و مثله معه) يعني سنته الطاهرة و الأحاديث كثيرة نصت على كلام الله و كلام رسوله و اتباعه و منها قوله عليه الصلاة و السلام: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله) و قال ( عليكم بسنتي و سنة الخلفاء المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجد)
و أئمة الحديث الجهابذة النقاد خلقهم الله للحفاظ على سنة نبيه و قد كانوا في كل عصر يدافعون عن سنته من كذب الكذابين و الزنادقة و بعضه بالغ في التشدد كشعبة و يحي بن سعيد القطان و بن معين و أبو حاتم و وصفوا بالحفاظ المتقنين الذين يتتبعون الحديث من مصادرها من مدينة إلى أخرى ونيتهم هي تنقية السنة قدر الامكان فكيف بأبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي الذي كان على مقربة منهم و لازم جابرا مع كون الأخير معروف و تلامذته أصبحوا أئمة بعده و اتصف بالبطولات التي لا تدع أدنى شك في معرفته و والله لو ذكر و لو بسبيل الذم لكان هنالك كلاما آخر.
أما تلميذه الربيع ابن حبيب الأزدي الفراهيدي الذي صنف كتابا كاملا خفي عن ابن معين الذي يتتبع المصنفين و يكتب حتى الأحاديث الموضوعة من كتبهم لكي يحذر الناس منها و حتى لا يستطيع أحد أن يسرقها و يعيد ذكرها بسند آخر, و المشكل المحير أنه كان في البصرة أشهر مدينة في مجال الحديث و اشتهر بإمامته وبطولاته الكبيرة عند القوم و مع ذلك لم يرد ذكره عندهم.
و الأدهى و الأمر من كل هذا أن محاولات أئمة الإباضية المعاصرين أن يثبتوا للأمة وجودهما في كتب الجرح و التعديل و كتب تراجم الرجال و لو بالتلبيس و التدليس و الكذب نسأل الله السلامة و ترك الهوى.
لذا لا يسوغ لنا أن نقبل الحديث من الطرق المجهولة و الغامضة و لو كان هذا مساسا لأعمدة مذهبنا و نتقي الله في أنفسنا لأننا أمام شرع أكد عليه ربنا تعالى من فوق سبع سماوات و يجب علينا أن نتعلم أن مذهبنا الأصح و الأقوم هو مذهب رسول الله صل الله عليه و سلم, و ليس مذهب فلان و مذهب فلان و نتبعه بإيجابياته و سلبياته,
ثم لا نطعن في ما هو واضح لا شك في صحته و لا نخدع أنفسنا بعاطفتنا و بالتعصب الأعمى, فالله تعالى يعلم ما تخفي الصدور و الحمد لله على هذا.
ثم إن الحديث نسب إلى ابن عباس و هذا تفرد عجيب جدا إذ ثبت عن ابن عباس بالأسانيد الصحيحة أنه رفع يديه في المواضع الثلاثة و نقلها أجل تلامذته منهم طاوس و عطاء و أبو جمرة و غيرهم.
و بالتالي فإن هذا الحديث خالف غيره في سنده المساق إلى الصحابي الراوي فقد اتفقت كل الروايات المعروفة أن الراوي هو جابر بن سمرة و ليس ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
و القاعدة عند علماء مصطلح الحديث هو نسف هذا الحديث المنكر و الشاذ بل نسف كل المسند لعدة أوجه: ذكرت بعضها آنفا و غيرها الآتية:
ـ اللفظ المنكر و الشاذ الذي خالف الصحيح.
ـ كثرة الأحاديث بالألفاظ المنكرة في المسند و التي تخالف ألفاظ الأحاديث الصحيحة الثابتة حتى أصبحت مضادة لها و الأمثلة كثيرة.
ـ كثرة الموضوعات فيه التي تشتم فيه رائحة نصرة المذهب.
ـ أغلب شيوخ المصنف متهمين بين زنديق و كذاب ومتروك و مجهول و ضعيف.
ـ هذا و إن درسنا علل الأسانيد و المتون بكل جوانبه لاكتشفنا الفجوات و الفجوات.